هو شيخ كبير .. نجلس إليه .. بعدما كبر سنه .. ورق عظمه .. وكف بصره ..
وهو
يحكي ذكريات شبابه ..
نجلس إلى كعب بن مالك رضي الله عنه ..
وهو يحكي
ذكرياته .. في تخلفه عن غزوة تبوك ..
وكانت آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه
وسلم ..
آذن النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالرحيل وأراد أن يتأهبوا أهبة
غزوهم ..
وجمع منهم النفقات لتجهيز الجيش .. حتى بلغ عدد الجيش ثلاثين ألفاً ..
وذلك حين طابت الظلال الثمار ..
في حر شديد .. وسفر بعيد .. وعدو قوي عنيد
..
وكان عدد المسلمين كثيراً .. ولم تكن أسماؤهم مجموعة في كتاب ..
قال كعب
– كما في الصحيحين - :
وأنا أيسر ما كنت .. قد جمعت راحلتين .. وأنا أقدر شيء
في نفسي على الجهاد ..
وأنا في ذلك أصغي إلى الظلال .. وطيب الثمار ..
فلم
أزل كذلك .. حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً بالغداة ..
فقلت :
أنطلق غدا إلى السوق فأشتري جهازي .. ثم ألحق بهم ..
فانطلقت إلى السوق من الغد
.. فعسر علي بعض شأني .. فرجعت ..
فقلت : أرجع غدا إن شاء الله فألحق بهم ..
فعسر عليَّ بعض شأني أيضاً ..
فقلت : أرجع غدا إن شاء الله .. فلم أزل كذلك ..
حتى مضت الأيام .. وتخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فجعلت أمشي
في الأسواق .. وأطوف بالمدينة ..
فلا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق ..
أو رجلاً قد عذره الله ..
نعم تخلف كعب في المدينة .. أما رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقد مضى بأصحابه الثلاثين ألفاً ..
حتى إذا وصل تبوك .. نظر في وجوه
أصحابه .. فإذا هو يفقد رجلاً صالحاً ممن شهدوا بيعة العقبة ..
فيقول صلى الله
عليه وسلم : ما فعل كعب بن مالك ؟!
فقال رجل : يا رسول الله .. خلفه برداه
والنظر في عطفيه ..
فقال معاذ بن جبل : بئس ما قلت .. والله يا نبي الله ما
علمنا عليه إلا خيراً ..
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
قال كعب :
فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك .. وأقبل راجعاً إلى المدينة ..
جعلت أتذكر .. بماذا أخرج به من سخطه .. وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي ..
حتى إذا وصل المدينة .. عرفتُ أني لا أنجو إلا بالصدق ..
فدخل النبي صلى
الله عليه وسلم المدينة .. فبدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين .. ثم جلس للناس ..
فجاءه المخلفون .. فطفقوا يعتذرون إليه .. ويحلفون له ..
وكانوا بضعة
وثمانين رجلاً .. فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم .. واستغفر لهم
.. ووكل سرائرهم إلى الله ..
وجاءه كعب بن مالك .. فلما سلم عليه .. نظر إليه
النبي صلى الله عليه وسلم .. ثم تبسَّم تبسُّم المغضب ..
ثم قال له : تعال ..
فأقبل كعب يمشي إليه .. فلما جلس بين يديه ..
قال له صلى الله عليه وسلم :
ما خلفك .. ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟
قال : بلى ..
قال : فما خلفك ؟!
فقال كعب : يا رسول الله .. إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا .. لرأيت
أني أخرج من سخطه بعذر .. ولقد أعطيت جدلاً ..
ولكني والله لقد علمت .. أني إن
حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به علي .. ليوشكن الله أن يسخطك علي ..
ولئن حدثتك
حديث صدق .. تجد عليَّ فيه .. إني لأرجو فيه عفوَ الله عني ..
يا رسول الله ..
والله ما كان لي من عذر ..
والله ما كنت قط أقوى .. ولا أيسر مني حين تخلفت عنك
..
ثم سكت كعب ..
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه .. وقال :
أما هذا .. فقد صدقكم الحديث .. فقم .. حتى يقضي الله فيك ..
فقام كعب يجر
خطاه .. وخرج من المسجد .. مهموماً مكروباً .. لا يدري ما يقضي الله فيه ..
فلما رأى قومه ذلك .. تبعه رجال منهم .. وأخذوا يلومونه .. ويقولون :
والله
ما نعلمك أذنبت ذنباً قط .. قبل هذا .. إنك رجل شاعر ..
أعجزت ألا تكون اعتذرت
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون ..
هلا اعتذرت بعذر
يرضى عنك فيه .. ثم يستغفر لك .. فيغفر الله لك ..
قال كعب :
فلم يزالوا
يؤنبونني .. حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي ..
فقلت : هل لقي هذا معي أحد ؟
قالوا : نعم .. رجلان قالا مثل ما قلت .. فقيل لهما مثل ما قيل لك ..
قلت :
من هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع .. وهلال بن أمية ..
فإذا هما رجلان صالحان
قد شهدا بدراً .. لي فيهما أسوة ..
فقلت : والله لا أرجع إليه في هذا أبداً ..
ولا أكذب نفسي ..
* * * * * * * * *
ثم مضى كعب رضي الله عنه .. حزيناً
.. كسير النفس .. وقعد في بيته ..
فلم يمضِ وقت .. حتى نهى النبي صلى الله عليه
وسلم الناس عن كلام كعب وصاحبيه ..
قال كعب :