لم يبد يهود خيبر عداء سافراً للمسلمين حتى لحق بهم زعماء بني النضير عندما أجلوا
عن المدينة. وكما سبق وأن ذكرنا فقد كان أبرز زعماء بني النضير الذين غادروا
المدينة ونزلوا خيبر : سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وحيي بن
أخطب ، فلما نزلوها دان لهم أهلها.
لقد نزلوا بأحقادهم ضد المسلمين ، ولذا
كانوا كلما وجدوا فرصة للانتقام من المسلمين انتهزوها ، ووجدوا في قريش وبعض قبائل
العرب حصان طروادة الذي سيدخلون به المدينة مرة أخرى ، فألبوهم ضد المسلمين ، ثم
جروهم إلى غزوة الخندق ، وسعوا في إقناع بني قريظة للانضمام إليهم والغدر
بالمسلمين. ولذا كانت تلك العقوبة الرادعة التي أنزلها المسلمون بهم عندما صرف الله
الأحزاب ،
وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سرية عبد الله بن عتيك للقضاء على
رأس من رؤوسهم أفلت من العقاب يوم قريظة ، وهو سلام ابن أبي الحقيق ،
فقتلوه.
وكانت هدنة الحديبية فرصة أمام المسلمين لتصفية هذا الجيب الذي يشكل
خطورة على أمن المسلمين ، وقد وعد الله المسلمين بمغانم كثيرة يأخذونها إذا هزموا
يهود خيبر ، وإلى ذلك أشارت سورة الفتح التي نزلت في طريق العودة من الحديبية ( لقد
رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ،
فعلم ما في قلوبهم ، فأنزل
السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً ، ومغانم كثيرة يأخذونها ، وكان الله عزيزاً
حكيماً ، وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون
آية للمؤمنين ويهديكم صراطاً مستقيماً ، وأخرى لم تقدروا عليها ، قد أحاط الله بها
، وكان الله على كل شيء قديراً).
تاريخ الغزوة :
ذكر ابن إسحاق أنها
كانت في المحرم من السنة السابعة الهجرية ، وذكر الواقدي أنها كانت في صفر أو ربيع
الأول من السنة السابعة بعد العودة من غزوة الحديبية ، وذهب ابن سعد إلى أنها في
جمادى الأولى سنة سبع ، وقال الإمامان الزهري ومالك إنها في المحرم من السنة
السادسة. وظاهر أن الخلاف بين ابن إسحاق والواقدي يسير ، وهو نحو الشهرين ، وكذلك
فإن الخلاف بينهما وبين الإمامين الزهري ومالك مرجعه إلى الاختلاف في ابتداء السنة
الهجرية الأولى كما سبق الإشارة إلى ذلك. وقد رجح ابن حجر قول ابن إسحاق على قول
الواقدي.
أحداث الغزوة :
سار الجيش إلى خبير بروح إيمانية عالية على
الرغم من علمهم بمنعة حصون خيبر وشدة وبأس رجالها وعتادهم الحربي. وكانوا يكبرون
ويهللون بأصوات مرتفعة ، فطلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفقوا بأنفسهم
قائلاً : (إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم). وسلكوا طريقا بين خيبر وغطفان
ليحولوا بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر لأنهم كانوا أعداء للمسلمين.
ونزل
المسلمون بساحة اليهود قبل بزوغ الفجر ، وقد صلى المسلمون الفجر قرب خيبر ، ثم
هجموا عليها بعد بزوغ الشمس ، وفوجئ أهلها بهم وهم في طريقهم إلى أعمالهم ، فقالوا
: محمد والخميس !! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الله أكبر خربت خيبر ، إنا
إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين).
وهرب اليهود إلى حصونهم وحاصرهم
المسلمون. وقد حاولت غطفان نجدة حلفائهم يهود خيبر ، حتى إذا ساروا مرحلة سمعوا
خلفهم في أموالهم وأهليهم حساً فظنوا أن المسلمين قد خالفوا إليهم فرجعوا ، وخلوا
بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر ، فأخذ المسلمون في افتتاح حصونهم
واحداً تلو الآخر.
وكان أول ما سقط من حصونهم ناعم والصعب بمنطقة النطاة
وأبي النزار بمنطقة الشق ، وكانت هاتان المنطقتان في الشمال الشرقي من خيبر ، ثم
حصن القموص المنيع في منطقة الكتيبة ، وهو حصن ابن أبي الحقيق ، ثم اسقطوا حصني
منطقة الوطيح والسلالم.
وقد واجه المسلمون مقاومة شديدة وصعوبة كبيرة عند
فتح بعض هذه الحصون ، منها حصن ناعم الذي استشهد تحته محمود بن مسلمة الأنصاري ،
حيث ألقى عليه مرحب رحى من أعلى الحصن ، والذي استغرق فتحه عشرة أيام ، فقد حمل
راية المسلمين عند حصاره أبو بكر الصديق ، ولم يفتح الله عليه ،
وعندما جهد
الناس ، قال رسول الله إنه سيدفع اللواء غداً إلى رجل يحبه الله ورسوله ويحب الله و
رسوله ، ولا يرجع حتى يفتح له ، فطابت نفوس المسلمين ، فلما صلى الفجر في اليوم
التالي دفع اللواء إلى علي ، ففتح الله على يديه.
وكان علي يشتكي من رمد في
عينيه عندما دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم ، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم
في عينيه ودعا له ، فبرئ.
ولقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم علياً بأن
يدعو اليهود إلى الإسلام قبل أن يداهمهم ، وقال له : ( فوالله لأن يهدي الله بك
رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم). وعندما سأله علي : يا رسول الله ،
على ماذا أقاتل الناس ؟ قال : ( قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً
رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على
الله).
وعند حصار المسلمين لهذا الحصن برز لهم سيده وبطلهم مرحب ، وكان
سبباً في استشهاد عامر بن الأكوع ، ثم بارزه علي فقتله ، مما أثر سلبياً في معنويات
اليهود ومن ثم هزيمتهم.
وقد أبلى علي بلاء حسناً في هذه الحرب. ومن دلائل
ذلك : روى ابن إسحاق من حديث أبي رافع – مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم – أن
علياً عندما دنا من الحصن خرج إليه أهله ، فقاتلهم ، فضربه رجل من يهود فطرح ترسه
من يده ، فتناول علي باباً كان عند الحصن فترس به عن نفسه ، فلم يزل في يده وهو
يقاتل حتى فتح الله عليه ، ثم ألقاه من يده حين فرغ.
قال الراوي – أبو رافع
: فلقد رأيتني في نفر سبعة معي ، أنا ثامنهم ، نجهد على أن نقلب ذلك الباب ، فما
نقلبه.
وروى البيهقي من طريقين مرفوعين إلى جابر رضي الله عنه قصة علي
والباب ويوم خيبر. ففي الطريق الأول أن عليا رضي الله عنه حمل الباب حتى صعد عليه
المسلمون فافتتحوها ، ولم يستطع أربعون رجلاً أن يحملوا هذا الباب. وفي الطريق
الثانية أنه اجتمع عليه سبعون رجلاً ، فأعادوه إلى مكانه بعد أن
أجهدهم.
وتوجه المسلمون إلى حصن الصعب بن معاذ بعد فتح حصن ناعم ، وأبلى
حامل رايتهم الحباب بن المنذر بلاء حسناً حتى افتتحوه بعد ثلاثة أيام ، ووجدوا فيه
الكثير من الطعام والمتاع ، يوم كانوا في ضائقة من قلة الطعام ،
ثم توجهوا بعده
إلى حصن قلعة الزبير الذي اجتمع فيه الفارون من حصن ناعم والصعب وبقية ما فتح من
حصون يهود – فحاصروه وقطعوا عنه مجرى الماء الذي يغذيه ، فاضطروهم إلى النزول
للقتال ، فهزموهم بعد ثلاثة أيام ، وبذلك تمت السيطرة على آخر صحون منطقة النطاة
التي كان فيها أشد اليهود.
ثم توجهوا إلى حصون الشق ، وبدأوا بحصن أبيّ ،
فاقتحموه ، وأفلت بعض مقاتلته إلى حصن نزار ، وتوجه إليهم المسلمون فحاصروهم ثم
افتتحوا الحصن ، وفر بقية أهل الشق من حصونهم وتجمعوا في حصن القَمُوص المنيع وحصن
الوطيح وحصن السلالم ، فحاصرهم المسلمون لمدة أربعة عشر يوماً حتى طلبوا
الصلح.
نتائج الغزوة :